مقالا تحت عنوان : عندما تكون الثقة مطلقة تكون المحاسبة على مستواها بقلم الإداري الدكتور الحسين محمد اشويخ .

مقدمة
تُعدّ الثقة أساس البناء المؤسسي السليم، وهي الركيزة التي تقوم عليها القيادة الرشيدة والإدارة الفاعلة. غير أنّ الثقة المطلقة، إذا لم تُقابل بمستوى عالٍ من المحاسبة، قد تتحول إلى غطاءٍ للقصور أو بابٍ للفساد. ومن هنا تبرز القاعدة الحكيمة: «عندما تكون الثقة مطلقة، تكون المحاسبة على مستواها» أي أن عمق الثقة يستوجب صرامة في المتابعة والرقابة، لأن المسؤولية تزداد بقدر ما تتسع مساحة الثقة.
ولاً: مفهوم الثقة والمحاسبة في المنظور المؤسسي.
يُعرّف عالم الإدارة، ستيفن كوفي (Stephen Covey) الثقة بأنها: «العملة الأخلاقية التي تُبنى بها المؤسسات القوية». فهي ليست غياب الرقابة، بل هي نظام يقوم على حسن الظن المقترن بالتدقيق المستمر.
أما المحاسبة: فهي الآلية التي تضمن اتساق السلوك مع الالتزامات والمسؤوليات، كما يصفها الخبير في الحكم الرشيد، روبرت دنكلف (Robert Denhardt)، بأنها «الموازنة بين الحرية في القرار والواجب في التبرير».
ثانياً: العلاقة الجدلية بين الثقة والمحاسبة.
الثقة والمحاسبة وجهان لعملة واحدة؛ فكلما تعززت الثقة بين القيادة والأفراد، ازدادت الحاجة إلى محاسبة نزيهة تليق بمستوى تلك الثقة.
الثقة المطلقة تولّد تفويضاً واسعاً للسلطة، وهذا التفويض لا يكون إيجابياً إلا إذا أُرفق بآليات دقيقة للمتابعة والتقويم.
غياب المحاسبة، في ظل الثقة المطلقة يؤدي إلى ما يسميه المفكر الفرنسي مونتسكيو بـ «الاستبداد الإداري المقنّع»حيث تتحول النوايا الحسنة إلى قرارات غير خاضعة للمساءلة.
وفي المقابل، فإن الجمع بين الثقة العالية والمحاسبة الرشيدة ينتج ما وصفه، بيتر دراكر (Peter Drucker)، بـ *«الإدارة بالمسؤولية المشتركة»، حيث يصبح الجميع محاسباً بقدر ما هو موثوق.
ثالثاً: أبعاد المحاسبة المواكبة للثقة.
1- البعد الأخلاقي:
الثقة ليست امتيازاً، بل أمانة، لقوله تعالى:
> «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…» [الأحزاب: 72].
> ومن مقتضى الأمانة أن يُحاسَب المؤتمن بقدر حجم الثقة الموضوعة فيه.
2- البعد الإداري:
الثقة تُبنى على الأداء لا على النوايا. ولهذا تُشترط مؤشرات أداء موضوعية (KPI) تُقاس بها النتائج وتُضبط بها المسؤوليات.
3- البعد السياسي والمؤسسي:
في التجارب الحديثة، مثل النظام الإداري النيوزيلندي، تُعتبر الثقة المتبادلة بين الحكومة والموظفين حجر الزاوية في الحكم الرشيد، لكن تلك الثقة مدعومة بمحاسبة دقيقة من البرلمان وهيئات الرقابة.
رابعاً: الثقة والمحاسبة في السياق الموريتاني والعربي.
في السياقات العربية، ومنها موريتانيا، يتجه الإصلاح الإداري الحديث نحو ربط المسؤولية بالمحاسبة، استلهاماً للتجارب الدولية في الشفافية والحكامة. فالموظف أو المسؤول الذي يُمنح صلاحيات واسعة باسم الثقة، يجب أن يُساءل على مستوى أدائه الفعلي لا على النوايا أو العلاقات.
ولذلك فإن ترسيخ ثقافة الثقة المتوازنة مع المحاسبة هو أحد مفاتيح الانتقال من إدارة الأوامر إلى إدارة النتائج.
خاتمة:
إنّ الثقة المطلقة لا تعني إلغاء الرقابة، بل تعني رفع مستوى المحاسبة لتتناسب وعمق المسؤولية، فكلما زادت مساحة الثقة، وجب أن تتسع دائرة المساءلة بنفس القدر. تلك هي معادلة القيادة الرشيدة التي تجمع بين الإيمان بالإنسان وضبط الأداء، وبين تفويض المسؤولية وتحمّل العواقب.
وهكذا تتحقق العدالة الإدارية والمالية في أرقى وابها صورها، إذ تكون الثقة تكليفاً لا تشريفا والمحاسبة حماية لا عقوبة.
والله المستعان.
بقلم الإداري الدكتور الحسين محمد اشويخ .



